«القرآن والاتزان الفكريّ»
امتلاك العقل المسلم لتصوّر متكامل تجاه الكون والإنسان والخالق هو ما يحقق البناء الفكريّ للمسلم، إذ يقوم على ربط الحدث بالأسباب الحقيقيّة ومسبِّبها. ما يحقق التوازن الفكري، توافق المنهج المختار مع الفطرة والعقل إذ لا يجب أن يتضمن ثغراتٍ أو شكوك في حال تم فرضه وتطبيقه على الواقع.
ما يضاد اتزان الفكر هو تبديد العقل، ما يؤول بالمسلم للانحراف عن محاور أهدافه الثلاثة في الدنيا؛ العمران والتزكية والهداية.
من صور انحراف المسار:
فالمحاسبة ضروريّة لتقييم سلوك المسلم؛ فأفعال الخير تورث نعيمًا وآثام المعصية تورث سعيرًا. ولو أن إنسانًا أهملَ مراجعة نفسهِ فسيزداد غفلة، وتقوده الغفلة للبعد عن مسار حياة المسلم. ولا تكون المحاسبة إلا بميزان القرآن ليكون الحاكم الوجدانيّ والمعيار السلوكيّ له، فقد قال الله تعالى: «وكلّ إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا».
«اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا»
يخاطب القرآن العقل السليم، إذ يستطيع المسلم وغير المسلم فهمه واستنباط الأحكام منه كي يتمكن بعد تحليل الآيات من اختيار الطريق الصحيح. الشيء ال في القرآن أن المنطق يخضع له بيسر، دون محاولة لتحريف أو شك. وقد ذم الله سبحانه السير على دروب السابقين دون فهم، إذ قال:
«إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا» الأحزاب67.
إذن، كيف نتجنب انحراف الطريق؟ بالطبع، بتأسيس العقل على سبل الحق واليقين وأن المسلم لا يفر من قدر الله إلا لقدَر الله. ولا يتم توازن الفكر إلا ببنائه في العقل رويدًا، ليس وليدة يوم وليلَة، وإنما هو عملية تتم عبر تراكماتٍ نبنيها في العقول لتنتج عنها القناعات، وأول هذه القناعات، استنكار الشكّ في الدّين: «أفي الله شك؟» إذ أن اليقين معيار البناء، ومتى مسّ الشكّ قلبًا بدأ في هدمِه.
ثانيًا، تحليل الأحداث والمجريات وردّها إلى مسببها ورفض ما يتنافى مع المنطق! كما ذكر في القرآن مرات عديدةٍ: «لا يستوي»؛ فمثلًا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنّة، لم؟ لأن أصحاب الجنة هم الفائزون بالطبع! فلا قانونَ أعدل من قانون السماء. أيضًا «لا يستوي الخبيث والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث». ما أجدر القرآن أن يكون دستورًا حياتيّا! الله يخبرك منذ أكثر من ألف سنة أن الخبيث كثير، فلا تنجرف خلفه؛ لو أن الغلبةَ للكثرة، ما ذكر أن أكثرهم لا يعقلون ولا يفقهون، بل يثبت فؤادك بأن قليل من عبادي الشكور وأن الصالحين –دومًا- قليل ما همّ!
ثالثًا، السعي الحثيث وراء الحقّ والحقيقة، خاصّة متى ما التبس أمرٌ على القوم؛ يحاجج القرآن الناس بما لديهم، فتبين لك قوّته في كلّ موضع ذكر فيه «قل هاتوا برهانكم».
أخيرًا، «لا تميلوا كلّ الميل»، فالميل يضاد الاتزان. والحياة ليست سهلة، الحياة مليئة بالفتن والصعوبات، ولا ينجينا منها سوى الاحتماء بكهف القرآن.. شرعةً ومنهاجًا.